الرئيسية » أخبار وطنية ودولية



في ظلال طوفان الأقصى "26"

ثاني أيام الهدنة مشاهدٌ صادمةٌ وصورٌ مروعةٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ما إن دخلت الهدنة الإنسانية المؤقتة في قطاع غزة حيز التنفيذ في تمام الساعة السابعة من صبيحة يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر تشرين ثاني الجاري، حتى خرج سكان قطاع غزة كلهم، في الشمال المدمر والجنوب المكتظ بالسكان والنازحين، نساءً ورجالاً وأطفالاً، إلى الشوارع والطرقات، والأزقة والمنعطفات، يتفقدون ما خلفه العدوان، والآثار الناجمة عن القصف والغارات، وكانوا قد هيأوا أنفسهم لما سيرون، واستعدوا لمواجهة الحقيقة على الأرض، فلم تفاجئهم المشاهد، ولم تصدمهم الصور والوقائع، إذ كانوا يعرفون أن ثمانية وأربعين يوماً من العدوان المتواصل، والقصف الجوي والبري والبحري العنيف، لم يترك حجراً على حجر، كما كان يسعى ألا يترك رأساً على كتفٍ.

 

لكن الحقيقة كانت أكبر من الخيال، والصور أبلغ من الأخبار، والمشاهد على الأرض تشي بما هو أكبر من الزلزال وأشد عصفاً من الإعصار، فما تفعله الطبيعة أرحم بكثيرٍ مما يفعله الإنسان، وأشد فظاعةً من آثار زلزلة الأرض التي لا تطول، وأكثر تدميراً من عاصفة السماء التي لا تدوم، إلا أن العدو الحاقد جمع في عدوانه كل الأحقاد والشرور، وخلف وراءه ما لا تقوى على إدراكه العقول أو تتصوره الأذهان، وهو ما يريد إخفاءه ويخشى من ظهوره، لعلمه التام أن من يرى أبداً ليس كمن يسمع، وأن ردة الفعل بعد المعاينة والتشخيص، والتدقيق والتوثيق، ستكون مخالفةً للتقارير المكتوبة والأخبار المنقولة.

 

أصيب سكان قطاع غزة بالذهول لهول ما رأوا، وصدموا لمشاهد الخراب والدمار الذي أصاب كل شيءٍ في القطاع، ولحق بكل زاويةٍ فيه، حيث لم ينجُ منه بناءٌ أو مؤسسة، ولا حجر أو شجرة، ولا شارع جانبي أو طريقٍ رئيسي، وكان الفلسطينيون رغم كل التحذيرات قد وصلوا إلى كل مكانٍ، وإن كانوا قد بدأوا بتفقد بيوتهم، والاطلاع على أحوال مناطقهم، وتفقد جيرانهم والاطمئنان على معارفهم، فوجدوا أن البيوت مدمرة، والأحياء ممسوحة، والمناطق متغيرة، ولم يعد من السهل تمييز معالمها القديمة، ومعرفة علاماتها السابقة، إذ ليس على الأرض سوى ركام، وبقايا بيوتٍ مهدمة وأمتعة متناثرة، وأثاث محطمٍ.

 

وجد الفلسطينيون مساجدهم مدمرة، ومآذنها على الأرض ساقطة، وأسواقهم وكأنَّ عاصفةً هوجاء قد أصابتها فمزقتها، وبعثرت واجهاتها وهدمت جدرانها، ورأوا الشوارع والطرقات وكأن آلياتٍ ضخمة قد حرثتها، وقلبتها فجعلت عاليها سافلها، وتركت في أنحائها حفراً عميقةً وأخاديد كثيرة، أما مدارس الأونروا وإن كانت مأهولةً، إلا أنهم وجدوها وقد تصدعت مبانيها، واستشهد الكثير ممن لجأوا إليها وظنوا أنها مؤسساتٌ محميةٌ وهيئاتٌ أمميةٌ محصنة.

 

أما المستشفيات التي أعلن العدو حربه عليها، وصب جام غضبه عليها، بعد أن صورها أنها مقار القيادة، وفيها غرف العمليات العسكرية، ومخابئ القادة والمسؤولين، وفيها يخفون الأسرى والمعتقلين، فقد تركها العدو مدمرة، وخلف في ردهاتها وعلى جنباتها عشرات الجثث، التي لا يعرف أصحابها ولا تميز هوياتها، وكثيرٌ ممن قتلهم كانوا جرحى أو مرضى، لكنه كان يريد تدمير هذه الرموز التي صنعت الأساطير بصمودها وصبر  أهلها، وأصبحت معاقل للاجئين ومساكن للنازحين، فدمرها وخربها، وعاث فساداً في جنباتها، وترك ردهاتها وكأن بحراً قذف بكل ما فيه على شواطئه، فكانت أشلاءً متناثرة وبقايا أدواتٍ صحية مبعثرة، وآثار دماءٍ على الأرض كثيرة، وأجزاءً من أعضاء مبتورة.

 

لكن المشاهد الأصعب والأكثر تأثيراً وحزناً، والأشد ألماً ووجعاً، كانت عندما تفقد أهل غزة أبناءهم وعائلاتهم، إذ كانوا مقطوعين عنهم ولا يتواصلون معهم، ولا يعرفون شيئاً عنهم غير الأخبار غير المتواترة التي تصلهم، بسبب قطع العدو لكافة الاتصالات السلكية والخلوية، فسألوا عن بعضهم وتفقدوا بيوتهم وحواريهم، فاكتشفوا أن عدداً كبيراً من أحبتهم قد استشهد، وأن آخرين ما زالوا مفقودين تحت الأنقاض، ولا أحد يستطيع الوصول إليهم أو التأكد من حالتهم، وأن عدد الشهداء أكبر بكثيرٍ مما يعلن عنه، وأنه قابل للزيادة المضطردة كلما طالت فترة الهدوء، وتفقد الأهل بعضهم البعض.

 

أمام هذه الفواجع الكبيرة والصور القاسية والمشاهد الأليمة، سار الفلسطينيون على أقدامهم بخطىً ثابتةٍ وقاماتٍ ممشوقةٍ، وهمةٍ عاليةٍ، نحو أحيائهم ومناطقهم، وجابوا الطرقات العامة والشوارع، فلم يظهروا للعدو ضعفاً أو هنةً، ولا أسىً أو ندماً، بل أخذوا بأيدي بعضهم البعض، يواسون أنفسهم ويشجعونها، ويغذون الخطى ويستعجلونها، ويفكرون في الغد ويخططون للمستقبل، ويقولون لعدوهم ومن تحالف معه، نحن في أرضنا سنبقى، وعلى ترابها سنعيش، وبها سنتمسك، وعنها لن نتخلى، وهذا العدو الباغي يجب أن يردع، ومخططاته يجب أن تفشل، وآماله يجب أن تحبط، ولن يتحقق منها شيء مهما أثخن وأوغل، وقتل وأوجع

 

 التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع


  المشاركة السابقة

إضافة تعليق سريع
كاتب المشاركة :
الموضوع :
النص : *
 
TO  cool  dry 
عربي  mad  ohmy 
huh  sad  smile 
wub 

طول النص يجب ان يكون
أقل من : 30000 حرف
إختبار الطول
تبقى لك :



 

   ابحث في الموقع


 

   اصدارات الجيرة


 

   مرئيات

أيهم أولى بالتعديل مدونة الأسرة؟ أم مدونة المجتمع؟ أم مدونة الدولة؟
الزيغ والخطأ عند القرآني سامر إسلامبولي ينكر التراث ويتبنى منه ما تعلق بشرح آية: "ومايعلم تأويله إل
القرآني احمد عبده ماهر يكذب على ابن عباس فينسب إليه شرح "غاسق إذا وقب" بمعنى الذكر إذا انتصب

 

   تسجيل الدخول


المستخدم
كلمة المرور

إرسال البيانات؟
تفعيل الاشتراك

 
 

الأولى . أخبار متنوعة . قسم خاص بالأدب المَمْدَري . القسم الإسباني . الكتابات الاستشرافية في السياسة والفكر والأدب . ثقافة وفنون
كتب وإصدارات . تحاليل سياسية . تعاليق سياسية . بريد القراء . سجل الزوار . من نحن . اتصل بنا

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تمثل بالضرورة رأي الموقع، و إنما تمثل وجهة نظر كاتبيها. ولن يتحمل الموقع أي تبعة قانونية أو أخلاقية جرّاء نشرها.

جميع الحقوق محفوظة © 2009 - 2010 طنجة الجزيرة

تصميم وتطوير شبكة طنجة

ArAb PoRtAl